“صفحات آذارية” الصورة قاتمة والمواجهة مستمرة
تحت عنوان “صفحات آذارية الصورة تبدو قاتمة، ولكن المواجهة مستمرة” كتب الدكتور طلال خواجة في النهار:
الصورة تبدو قاتمة، ولكن المواجهة مستمرة.
كم كانت علامات القلق وبعض ملامح الاحباط بارزة على وجوه الزملاء والاصدقاء الذين تكاثرت لقاءاتهم في مقهى البان دور في طرابلس بعد مظاهرة “شكرا سوريا” التي قامت بها جبهة الممانعة بقيادة حزب الله في ٨ آذار سنة ٢٠٠٥، حيث ملأت الحشود ساحة رياض الصلح، وكادت تطل اواخرها على ساحة الشهداء التي تحولت لساحة الحرية بعد زلزال اغتيال الرئيس الحريري في ١٤ شباط ٢٠٠٥ بطنين من المتفجرات في منطقة السان جورج. وكانت ساحة الشهداء قد احتضنت جثمان الرئيس الشهيد ورفاقه، بجانب جامع محمد الامين، تلك التحفة المعمارية التي اعاد انشاءها بابهة حلة رفيق الحريري، لتشكل مع جارتيها الكاتدرائيتين المارونية والارثوذكسية، ثلاثي معماري فريد، في وسط بيروت. ذلك الوسط الذي شكل اعادة اعماره باشراف الرئيس الراحل مصدر جذب رئيسي للحركة التجارية والسياحية والثقافية، والذي كان قد عاد يرتاده عشرات الالوف يوميا من لبنان والدول العربية والعالم، بعد ان كانت الحروب الاهلية الطويلة قد دمرت ابنيته التاريخية والتراثية وحولته الى ملجأ للغربان والكواسر والقوارض.
ربما لم تعد بعض الابنية والمحلات والذكريات، كما شكلتها حركة السنين والايام واللحظات التي شهدتها وشهدت عليها نهضة بيروت، والتي الهمت الكتاب والروائيين والفنانين، فضلا عن المناضلين والحالمين ومظاهراتهم الطيارة والثابتة، كالمقاهي والمسارح والمعارض والمكتبات ودور السينما، وغيرها من صروح وفسحات العاصمة اللبنانية الجميلة.
ومع ذلك فقد صدحت رائعتنا فيروز، كما صدح بافاروتي وحضر عشرات النجوم والرسامين اللبنانيين والعرب والعالميين في حفلات ومهرجانات ومعارض، محاكاة لاعادة إعمار الوسط والعاصمة والبلد.
هذه الحفلات وغيرها من الاعمال والنشاطات الثقافية، اعادت بعض الايمان بالقوة الثقافية اللبنانية، التي لطالما ميزت هذا البلد الجميل، رغم اعاقاته الكثيرة والتي نفذت منها الخلافات والصراعات والحروب بانواعها الداخلية والخارجية.
ثم الم يعلن البابا يوحنا بولس الثاني من قلب الوسط وامام مئات الالوف ان لبنان هو وطن ورسالة في آن.
لقد شعر اللبنانيون من كل الأطياف بان اغتيال الحريري يستهدف كل واحد منهم، ورأوا في الجريمة اغتيالا للامل الذي بدأ يتكون لديهم، رغم الصعوبات والمعيقات والازمات، ورغم اختلاف الافكار والمنطلقات والمقاربات والنظرة للمستقبل، اذ جمعهم الظلم والقهر الذي مارسه عليهم النظام الامني السوري اللبناني، والذي سماه اكثرية اللبنانيين نظام الاحتلال السوري.
ولهذا كله لم يكن غريبا ان يتدفق اللبنانيون من كل حدب وصوب للمشاركة في تشييع الحريري، ومن ثم للتسابق في زيارة الضريح في المكان الذي تحول محيطه الى ساحة النضال من اجل الحقيقة والسيادة والحرية، كما من اجل ابقاء جذوة الامل و اعلاء ثقافة الحياة والحداثة والعيش الواحد في وطن الارز.
وقد شهدت جميع المناطق والساحات حراكات ونشاطات تستنكر وتدين العملية الاجرامية والارهابية المروعة التي اودت بالحريري ورفاقه، خصوصا مدينة طرابلس التي دفعت الثمن غاليا تحت ثقل ووطأة اجهزة النظام الفئوي على المدينة. الا انه لا شيء يضاهي حجم وتنوع الحراكات في العاصمة وفي ساحة وخيم الحرية التي تحولت الى مختبر الجذب الرئيسي للنضال الوطني الديمقراطي المطالب بالحقيقة وبالعدالة وبخروج القوات السورية التي تحتل البلد عمليا وتعبث بمقدراته الاقتصادية وبحياته الدستورية والسياسية والامنية.
هكذا خلقت تظاهرة الممانعة قلقا وهواجس
عند جميع المراهنين على نجاح الحراك السيادي الاستثنائي الذي التف حوله اللبنانيون بعد اغتيال الحريري، والذي تابع ما اطلقه لقاء البريستول والذي تحول مع تأييد الحريري الى لقاء وطني عابر للطوائف والمناطق والتيارات.
وزادت الاسئلة والشكوك قبل ايام قليلة من موعد التظاهرة التي دعا لها مسؤول شباب المستقبل في ذكرى مرور شهر على استشهاد الحريري في ١٤ آذار ٢٠٠٥.
وبمناسبة الغزو الروسي لاوكرانيا، نذكر بان السيد نصرالله الذي كان يامل ان يكون الانسحاب السوري للبقاع كما نص اتفاق الطائف وليس كما نص القرار ١٥٥٩ على ما كان يردد، كان قد حذر السياديين واللبنانيين عموما، بان لبنان ليس اوكرانيا، وكانت هذه الاخيرة قد شهدت انذاك الثورة البرتقالية الاولى، مطلقا اشارات التعالي والغطرسة كzoom in و zoom out.
فالسيد الذي تفاخر بانه جندي عند الولي الفقيه، لطالما دافع عن الانظمة الاستبدادية والشمولية اينما كانت، وان غلفها احيانا بشعار التوجه شرقا. وما نسمعه حاليا، حول النأي بالنفس والحريات، وما الى ذلك من السيد وباقي الممانعين يشكل تورية لا تخلو من التبجح والسخرية، وان كان يؤشر على الاعتراف الضمني بان بعض ميزات الوطن الصغير لا يمكن كسرها دون كسر البلد كله.
في لقاءات البان دور، حاول الراحلان جبور الدويهي ومصباح الصمد التخفيف من ملامح الاحباط عند الكثيرين باظهار ان رقم النصف مليون مضخم ودعائي عن طريق الحساب الرياضي الذي يثبت ان ساحة رياض الصلح لا تستوعب هذا العدد، وانه قد غلب على المشاركين صبغة طائفية معينة، شرائح واسعة منهم شاركت بفتاوى التكليف الشرعي، كما ان قوافل من باصات المجنسين استقدمت من سوريا، داعين للعمل لانجاح تظاهرة ١٤ آذار ضمن الفروع الشمالية وفي جميع قطاعات واماكن التأثير.
لم يشهد يوم ١٤ آذار تظاهرة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، بل شهد فيضانات وتدفق سيول من البشر من كل المناطق والفئات والاعمار.
فلم يحدث في اي بلد وفي اي مناسبة ان نزل اكثر من ربع السكان الى الشوارع للزحف باتجاه ساحات الحرية في العاصمة، فرادا ومجموعات، عائلات باكملها، واكاد اقول منازل باكملها، واحيانا احياء باكملها، خصوصا الاحياء والشوارع المتاخمة للوسط. ويقيني ان معظمها كان عفويا، وينم عن وطنية عالية عابرة للمناطق والطوائف، غذتها شعارات واستفزازات وعراضات ورذالات”الممانعة الغير وطنية، حيث ردت الجموع الغفيرة على شعار الوفاء لسوريا والاسدين بشعار الوفاء للبنان وللشهيد الحريري وباقي الشهداء وبشعارات ابتدعتها الاريحية اللبنانية الجاذبة والمعبرة. وقد استحق هذا النهوض العارم لقب ثورة الارز والاستقلال الثاني.
لن انسى مشهد الناس المصطفين على طول الطريق من طرابلس لبيروت، ملوحين بالاعلام اللبنانية، متمنين على الباصات والسيارات بنقلهم ولو حشرا. كما لن انسى اصرار الزملاء في باص كلية العلوم على الوصول الى ساحات الوسط، رغم انسداد كل الشوارع والطرقات على مداخل بيروت بالمتظاهرين، حتى ان الزميل الراحل نقولا فارس الذي لم يشارك في مسيرة حزبه الشيوعي المفتعلة في ١٣ آذار ، اصر على كسر جانب من الطريق لحرف الباص وركنه في مكان ما، ومن ثم المتابعة سيرا على الاقدام عدة كيلومترات وصولا لقلب بيروت النابض. اذ لا يعقل ان لا يشارك يساري من الزمن الرومانسي في يوم الرومانسية الوطنية.
لم تكن هذه التظاهرة الوطنية الاولى ولا الاخيرة، في بلد شهدت حياته السياسية والاقتصادية والدستورية محطات وتعرجات ومفارق واحداث بالغة الخطورة. فسيل التظاهرات والحراكات المستمرة منذ ٢٠٠٥، وصولا للانتفاضة التشرينية الاستثنائية حشدا وتنوعا وفعاليات، هو خير شاهد على الحيوية اللبنانية الاجمالية، والتي للاسف غالبا ما تعيقها وتشوهها الخلافات والانقسامات والاختراقات المذهبية والفئوية والتي تحسن فرق السلطة استثمارها رغم تشظيها، الا ان ان ضخامة ما حدث في ١٤ آذار سنة ٢٠٠٥ حول الحركة السيادية الى حركة تحرر واستقلال ثان.
لقد استطاعات الحركة السيادية التي تعملقت بعد استشهاد الحريري انجاز معجزة اخراج القوات السورية من لبنان في ظروف دولية مؤاتية، الا ان قيادتها فشلت في عبور اوتوستراد الدولة،وعبرت طرقات السلطة وزواريبها. وهذا سهل وقوع الحركة السيادية في مسلسل من الاوهام والافخاخ والاغتيالات والتسويات، مع استلام حزب الله وراعيه الايراني شعلة السيطرة الامنية. كما ادى هذا المنحى لاستفحال الخلافات والانقسامات وتورم الانا عند بعض اركانها. وساعد في ذلك ضمور الحركة الديمقراطية والوطنية المستقلة، وواقع اقليمي ودولي معاق ومعيق، خصوصا بعد انجاز الاتفاق النووي التعيس وانهيار الثورة السورية. مما اوصلنا تدريجيا وفي نهاية المطاف الى حالة الانهيار شبه الشامل، على وقع سيطرة سياسية شبه كاملة لحزب الله وراعيه الايراني مستفيدة من حلف الاقليات الذمي، وموصلة الجنرال عون الى الرئاسة.
هل تشكل ذكرى ١٤ آذار بمعانيها، وبما حملته من قيم وتضحيات قوة دفع للحركة السيادية السلمية والتي تواجه، في طروف اقليمية ودولية بالغة التعقيد، سيطرة ايرانية وان بالواسطة، خصوصا بعد ان تداخلت تداعيات الانهيار المالي والنقدي والمعيشي المتفاقمة بموازنة “هات ايدك والحقني” وبمشاريع التعافي البائسة وبالدعم الريعي الانتخابي المتجدد من بوابة صيرفة وغيرها، مع الاخطار الكيانية المتصاعدة؟
وهل يمكن تطوير الحراك السيادي والديمقراطي نحو جبهة وطنية واسعة تربط فعليا لا سرديا، بين موجبات التحرير وموجبات الاصلاح والعبور للدولة المتمسكة بالدستور وبانتمائها العربي الرحب؟ اذ حينها يمكن ان نبدأ بلملمة التشظي في كل الضفاف، والمتفاقم في الضفة السنية، وتعيد بعض الامل للجماهير اللبنانية العريضة والعابرة للطوائف والمناطق والتي لطالما قاومت الاحتلال و انتفضت على الظلم والقهر، خصوصا في انتفاضتي اذار وتشرين التاريخيتين.
واستطرادا هل يمكن تحويل الانتخابات الى محطة نضالية حقيقية ضمن هذه الرؤيا، بعيدا عن الطقوس والشخصانية واوهام التغيير السريع، خصوصا بوجود حزب مدجج بالسلاح والايديولوجيا وباسوا قانون انتخابات مذهبي عرفه لبنان.
الصورة تبدو قاتمة، ولكن المواجهة مستمرة.
فلنتدرب على الشهيق والزفير لهذا الماراتون الطويل والمتعرج.