امتصاص الليرات من السوق: على حساب من؟
بحلول شهر آذار الحالي، يكون قد مضى نحو سنة على بدء مصرف لبنان عمليّة ضبط سعر صرف الليرة تدريجيًا في السوق الموازية، من خلال مجموعة من الأدوات النقديّة، وأبرزها ضبط حجم الكتلة النقديّة المتداولة بالليرة في السوق. فعمليّة تجفيف السوق من الليرات النقديّة، بالتوازي مع الدولرة التي تخيّم على مختلف التداولات الماليّة في السوق، مثّلت المقاربة النقديّة الأساسيّة التي اعتمدها مصرف لبنان منذ أواخر الربع الأوّل من العام الماضي.
وهذا ما سمح أخيرًا بضبط سعر الدولار في السوق الموازية عند مستويات تقل عن 89 ألف ليرة للدولار، بعدما شهد سعر الصرف خلال السنوات السابقة تقلّبات سريعة وجامحة، فشل مصرف لبنان في ضبطها.
السؤال عن كيفيّة امتصاص النقديّة
لا يحتاج المرء إلى كثير من الشرح للتأكيد على اعتماد المصرف المركزي سياسة تجفيف السوق من الليرات النقديّة. فحتّى أواخر الشهر الماضي، كان حجم الكتلة النقديّة المتداولة ورقيًا بالليرة قد قارب 56.82 ألف مليار ليرة، مقارنة بأكثر من 83.29 ألف مليار ليرة في الفترة المماثلة من العام السابق، أي قبيل تحقيق الاستقرار النقدي الذي نشهده.
بصورة أوضح، وخلال فترة لم تتجاوز السنة الواحدة فقط، امتصّ مصرف لبنان نحو 32% من السيولة الورقيّة المتداولة في السوق بالليرة، وهو ما يمثّل سياسة نقديّة انكماشيّة صارمة وغير تقليديّة. ومن هذه الزاوية بالتحديد، لا يعود مستغربًا أن تشهد السوق الموازية هذا الاستقرار في سعر صرف الليرة.
كيف تمكّن المصرف المركزي من امتصاص الكتلة النقديّة على هذا النحو، خصوصًا أنّ المصرف أقلع منذ بداية شهر آب الماضي عن سياسة بيع دولارات الاحتياطي، لامتصاص الليرات النقديّة من السوق؟ بل على العكس تمامًا، كان مصرف لبنان يتدخّل في سوق القطع شاريًا للدولار، أي بائعًا لليرة، في السوق الموازية.
حسابات القطاع العام لدى مصرف لبنان
هذا السؤال، يدفعنا تلقائيًا إلى مراجعة إيداعات القطاع العام لدى مصرف لبنان، خصوصًا أن وزارة الماليّة انتقلت تدريجيًا إلى تحصيل قيمة الرسوم والضرائب من المواطنين بالليرات النقديّة، ما يجعل إيداعاتها لدى المصرف المركزي “امتصاصًا” لليرات الورقيّة بأدوات ضريبيّة.
بحلول أواخر شباط 2024، كان حجم إيداعات القطاع العام لدى مصرف لبنان قد ارتفع إلى أكثر من 397 ألف مليار ليرة، ما مثّل زيادة ضخمة مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي، حين اقتصر حجم هذه الإيداعات على نحو 74 ألف مليار ليرة فقط. بمعنى آخر، وخلال سنة واحدة فقط، ارتفع حجم ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان بأكثر من 323 ألف مليار ليرة لبنانيّة. فإلى أي مدى اعتمد مصرف لبنان على السياسة الضريبيّة لامتصاص الليرات من السوق؟
في واقع الأمر، ومن أصل هذه الزيادة الضخمة في ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان، ثمّة 181 ألف مليار ليرة من الزيادات المحققة في بداية شهر شباط الماضي، أي عند انتقال مصرف لبنان لاعتماد سعر الصرف الجديد الواقعي، عوضًا عن سعر الصرف السابق المحدد عند 15 ألف ليرة للدولار. بهذا المعنى، نتجت هذه الزيادة بالذات عن إعادة تقييم ودائع القطاع العام لدى مصرف لبنان بالدولار النقدي، وفقًا لسعر الصرف الجديد، من دون أن تعكس الزيادة بالضرورة أي إيداعات فعليّة. وعلى هذا الأساس، يفترض أن نحسم هذه القيمة من إيداعات القطاع العام الفعليّة التي نتحدث عنها.
لكن في المقابل، ثمّة 142 ألف مليار ليرة من الزيادات المحقّقة في إيداعات القطاع العام لدى مصرف لبنان، خلال الأشهر الأخرى، والتي لم تشهد أي تغيير يُذكر في سعر الصرف المعتمد للتصريح عن الميزانيّة. وبذلك، يصبح من الواضح أن هذه القيمة، التي توازي نحو 1.59 مليار دولار وفقًا لسعر الصرف الحالي، هي كناية عن رسوم حصّلتها الدولة اللبنانية بالليرة والدولار النقدي، وأودعتها لدى مصرف لبنان. وهذه القيمة، خدمت السياسة النقديّة للمصرف المركزي من ناحيتين: تقليص حجم الكتلة النقديّة بالليرة وامتصاصها كما أسلفنا الذكر أعلاه، وزيادة حجم احتياطات المصرف المركزي بالعملات الأجنبيّة.
بهذا الشكل، يتضح أن ثمّة كلفة ما تترتّب على هذا الاستقرار النقدي، وهي كلفة يتحمّلها حاليًا عموم دافعي الرسوم والضرائب، الذين يسددون قيمة الأموال المتراكمة في حسابات القطاع العام لدى مصرف لبنان. وبهذا الشكل أيضًا، يتضح أن ثمّة جانباً ظرفياً وفي غير مستدام في هذه السياسة النقديّة، التي لا تقوم إلا على تقاعس الدولة عن تأمين الخدمات الأساسيّة، وفقًا لسياسة تقشفيّة متشدّدة، لخدمة أهداف السياسة النقديّة الراهنة غير المستدامة. فوظيفة الدولة الأولى عند تحصيل الضرائب والرسوم ليست امتصاص الليرات والدولارات لخدمة السياسة النقديّة، بل تمويل عمليّاتها وخدماتها الأساسيّة.
إلى أي مدى ستصمد هذه السياسة النقديّة؟
وفقًا لمقرّرات مجلس الوزراء، من المفترض أن تتحمّل الدولة اللبنانيّة كلفة شهريّة تقارب 10 آلاف مليار ليرة لبنانيّة، لتسديد المساعدات الاجتماعيّة المستجدة، التي سيتم دفعها لموظفي القطاع العام. وبهذا الشكل، ستتقلّص قدرة الدولة اللبنانيّة على تطبيق السياسة الماليّة نفسها، القائمة على مراكمة الإيداعات في حساباتها لدى مصرف لبنان، من دون أي طائل يُذكر. وهذا ما يطرح السؤال مجددًا عن مدى استدامة السياسة النقديّة الراهنة، وعن مدى قدرة المصرف المركزي على ممارسة هذا “السحر النقدي” القائم على ابتلاع الرسوم والضرائب التي يتم تحصيلها من السوق.
السؤال الأهم، يرتبط بمجمل المشاكل النقديّة التي كان من المفترض أن يتعامل معها مصرف لبنان، من خلال أدوات تزاوج ما بين تدخله الفاعل في سوق القطع، وخلق أداة شفّافة للتداول بالعملات الصعبة. وجميع هذه الإجراءات باتت مؤجّلة حاليّة، في مقابل اعتماد ما يمكن تسميته بكسل السياسة النقديّة، عبر الاكتفاء بجمع الليرات والدولارات على حساب المال العام، والابتعاد عن إجراء أي معالجات نقديّة ذات شأن على المدى المتوسّط.
ما يحققه مصرف لبنان حاليًا إذًا ليس إنجازات، بقدر ما هو كسل، وكسل مكلف أيضًا.