طرابلس على فوّهة بركان غاضب… والعـ.ـصابات تلاعب الأجهزة الأمنية!
تبدو مدينة طرابلس وكأنّها على فوّهة بركان غاضب يقذف حِمَمه النارية في كلّ أحيائها وشوارعها. فهي تشهد ارتفاعاً مخيفاً وغير مسبوق في وتيرة العمليات الإجـ.ـرامية: قتـ.ـل وتشـ.ـليح وإشـ.ـكالات دموية متنقّلة. والسـ.ـلاح حاضر في كلّ مكان، حتّى في الأفراح والأتراح.
ينهمر الرصـ.ـاص بغزارة عازفاً نشيد المـ.ـوت في نهارات المدينة المتعبة ولياليها المظلمة. قيل قديماً إنّ السـ.ـلاح زينة الرجال، لكنّه أمسى بالنسبة إلى غالبية الشباب في عاصمة الشمال من أساسيّات البقاء على قيد الحياة، مثل رغيف الخبز، بسبب انتشار الجـ.ـريمة.
يوم الخميس، قبل ثلاثة أسابيع (22 كانون الأوّل 2022)، قام أحد الشبّان من راكبي الدرّاجات النارية بإطـ.ـلاق النار على رأس الشابّ عبد الله عيسى في منتصف النهار، على خلفيّة أفضلية المرور، فأصـ.ـابه إصـ.ـابة مميتة، لكنّ الله قيّد له النجاة.
أثارت هذه الجـ.ـريمة موجة غضـ.ـب شعبي واسعة، ليس لأنّها الأولى، بل لأنّها موثّقة بإحدى كاميرات المراقبة. وقد شاهدها اللبنانيون على هواتفهم في اليوم نفسه. فكان قتـ.ـلاً “مباشراً Live”. وهذا ما دفع الأجهزة الأمنيّة إلى زيادة فعاليّة الخطّة الأمنيّة المطبّقة في مدينة طرابلس وجوارها. فاستقدم الجيش تعزيزات كبيرة، ونفّذ عمليات مداهـ.ـمة على نطاق واسع. وكذلك فعلت قوى الأمن الداخلي التي عزّزت حضورها، وضاعفت من حواجزها ليلاً ونهاراً. في المقابل، ردّت العصـ.ـابات على كلّ تلك الإجراءات بتنفيذ خمس عمـ.ـليّات سـ.ـلب وتشـ.ـليح في الليلة نفسها، بحيث بدت وكأنّها تُخرج لسانها للدولة وأجهزتها وخطّتها الأمنيّة.
استمرّ الكرّ والفرّ بين الأجهزة والعـ.ـصابات طوال أيّام الأسبوع الفائت، فجرت مداهـ.ـمات كانت حصيلتها اعتقال عدد وافر من المطـ.ـلوبين، ومصادرة أسلـ.ـحة ومخـ.ـدّرات وممنوعات أخرى، في مواجهة ارتفاع وتيرة العمليّات الإجـ.ـرامية. ثمّ شهد الخميس التالي (29 كانون الأوّل 2022) ثلاث عمـ.ـليّات إطـ.ـلاق نار: واحدة فجراً أُصـ.ـيب فيها جندي في الجيش على يد ملثّمـ.ـين، وأخرى ظهراً داخل حـ.ـرم معهد طرابلس الفنّي الرسمي (مهنية القبّة) على خلفيّة معاكسة إحدى الفتيات، وثالثة بين شابّين حوّلا وسط المدينة المكتظّ بالمارّة والسيّارات في منطقة التل إلى ميدان رماية بالرصـ.ـاص الحيّ. وكأنّنا في مشهد من فيلم أو مسلسل بوليسي. فكانت النتيجة مقـ.ـتل الشابّ عمر حمد الذي صُودف مروره مع زوجته ولا علاقة له بالمشهد البوليسي. وقد حجبت الحادثة الأخيرة الاهتمام عمّا حصل قبلها وأيضاً بعدها.
إلى ذلك، تعرّضت عند غروب اليوم نفسه امرأةٌ للنـ.ـشل في إحدى النقاط الساخنة في “شارع عزمي” التجاري قرب “بنك لبنان والمهجر”، التي تشهد في مثل هذا التوقيت ازدحاماً هائلاً. السؤال الذي يطرح نفسه: من أين تستمدّ هذه العصـ.ـابات قوّتها وجرأتها؟
سقوط هيـ.ـبة الدولة
يميل الشارع الطرابلسي إلى تحميل الأجهزة الأمنيّة المسؤولية عن ارتكابات هذه العصـ.ـابات. لم ينشأ هذا الاعتقاد من فراغ، بل نتيجة ما خَبِره الطرابلسيّون لعقود خلت من ممارسات تلك الأجهزة التي تولّت تربية ورعاية الزعـ.ـران من أجل السيطرة على قرار المدينة.
بيد أنّ المشكلة أعقد من ذلك بكثير. يكشف مرجع أمنيّ لـ”أساس” أنّه ما إنْ يتمّ توقـ.ـيف أحد المطلوبين، حتى تنهمر الاتّصالات من السياسيّين لتخلية سبيله، وذلك على النقيض من بياناتهم ومواقفهم الشعبوية، التي تُدين الإجـ.ـرام وتسـ.ـتنكره. ويحدث أنْ يتّصل أخصام في السياسة من أجل الشخص عينه.
ما يزيد الطين بلّة هو اعتكاف القضاء الذي يدفع الناس إلى أخذ ما يعتبرونه حقّهم بيدهم. فصار كلّ شخص يميل إلى إصدار الأحكام بنفسه، ثمّ تطبيقها. لكنّ ذلك لم يكن ليحدث لولا تراجع هيـ.ـبة الدولة، التي كانت منقوصة في مناطق الأطراف قبل الانهـ.ـيار الاقتصادي عام 2019. أمّا بعده فلم يبقَ سوى الحدّ الأدنى منها. وحتّى هذا الحدّ مهدّد بالزوال.
لا ينحصر هدف أيّ خطّة أمنيّة بالقبض على المجـ.ـرمين، بل يجب أن يشمل إرساء مناخ من الاستقرار يرتكز على مفهوم هيبة الدولة، بما يردع أصحاب الفكر الإجـ.ـرامي ويجعلهم يعيدون حساباتهم قبل الإتيان بأيّ فعل غير قانوني، حتّى لو كان إطـ.ـلاق نار في الهواء. ولا يمكن لأيّ خطّة أمنيّة أنْ تنجح من دون أساس سياسي متين، حتّى لو تمّ نشر الجيش كلّه ومعه قوى الأمن الداخلي.
لا يعني ذلك العودة إلى مفهوم “الأمن بالتراضي”، بل يجب الضغلط لمنع السياسيّين من التدّخل لحماية الزعران والمـ.ـخرّبين، وتضييق الهامش الذي تستغلّه بعض الأجهزة وضبّاطها لبسط سطوتهم ولعب أدوار سياسية.
منذ عام 2005، طُبّقت عشرات الخطط الأمنية في طرابلس وغيرها. تشهد بذلك مقرّرات مجلس الوزراء، ولا سيّما تلك التي اتّخذتها في عام 2011 حكومة الرئيس نجيب ميقاتي التي وصل بها الحال إلى إعلان حال الطوارئ في طرابلس ووضعها تحت إمرة الجيش. لكنّ كلّ تلك الخطط كانت بلا جدوى لافتقارها إلى الغطاء السياسي.
#lebpress_news
#طرابلس
أمّا الخطّة التي أقرّتها حكومة الرئيس تمام سلام ونفّذها الوزير المشنوق فنجحت لأنّه هيّأ لها الأرضية السياسية والأمنيّة قبل البدء بتطبيقها. ومع أنّ عدداً من السياسيين سخر منها لأنّه تمّ التسويق لها قبل تطبيقها، بما منح المطلوبين زمناً كافياً للهروب، إلا أنّ الهدف من الخطّة تحقّق، وهو إنهاء اللعبة الدموية في شوارع طرابلس، بغطاء سياسيّ واسع، ومن دون الخوض في نهر جديد من الدماء. وكان “الإعلان” في هذا المعنى حامياً وحاقناً للدماء، مع النتيجة الأفضل. فلم يجرؤ أيّ من السياسيّين على التوسّط من أجل حماية أحد أزلامه من المطلوبين خوفاً من افتضاح أمره أمام الرأي العامّ، وانسحب المخرّبون إلى جحورهم. وهذا ما يجب أن يحصل اليوم. فلا يستطيع أيّ سياسيّ بمفرده توفير المظلّة اللازمة لنجاح الخطّة الأمنيّة، بل يجب أنْ يكون ذلك عملاً جماعياً، وهو ما يبدو أنّه شبه مستحيل في ظلّ التشرذم السياسي السنّيّ.
إذ ينصبّ اهتمام الرئيس ميقاتي على إدارة شؤون الدولة، وعلى إدارة صراعه مع التيّار الوطني الحرّ ورئيسه جبران باسيل. وحسب المعلومات، فهو بعيد تماماً حتّى عن التدخّل من أجل الإفراج عن أيّ موقوف، وهو عموماً يخلع عنه “طرابلسيّته” فور دخوله السراي الحكومي، بمعزل عن كلامه المعسول.
الأمر نفسه ينسحب على وزير الداخلية بسام مولوي الطرابلسيّ أيضاً. أمّا نوّاب المدينة فلن يبادر بعضهم إلى التخلّي بالمجّان عمّن يعتبرونهم أساس قاعدتهم الشعبية. في حين أنّ البعض الآخر بعيد تماماً عن هذه الأجواء، وغير قادر على التأثير فيها لا سلباً ولا إيجاباً.
يجعل كلّ ذلك الخطط الأمنيّة تتوالى الواحدة تلو الأخرى من دون فائدة تُذكر. هذا الواقع يُفسح المجال أمام العصابات كي تتوسّع في أعمالها وفي أعداد منسوبيها، بما يجعل طرابلس أمام حلّ وحيد ودارج في الآونة الأخيرة، وهو الأمن الذاتي. وهنا الطامة الكبرى. فبعد مئة سنة من العلاقة الملتبسة بين الدولة وعاصمتها الثانية، ها نحن ذا نعود من جديد إلى المربّع “صفر”.
(اساس ميديا)