مات طوني في ورشة بناء… وليشكر عمر ربّه!
«من الطبيعي جداً أن يعمل عمر، فهو يحتاج أن يؤمّن قوته وقوت عائلته المكوّنة من أربعة أشخاص بعدما توفي والده تاركاً خلفه الديون وإيجارات المنزل المستحقة منذ 6 أشهر». هكذا كان ردّ أبو جمال، مشغّل عمر البالغ من العمر 12 سنة، في محل البقالة الذي يملكه في السوق القديم لمدينة طرابلس. ثم أضاف بينما يُكمل عمله: «فليشكر ربه أنه يعمل لديّ، بل هو محظوظ، فعلى الأقل أنا أعطيه مقابل عمله، أما الآخرون فربما يكتفون بإعطائه قوته اليومي لأنه في نظرهم يتعلّم مصلحة».
أبو جمال هو واحد من كثيرين في طرابلس كما في مناطق لبنانية أخرى، يستغلون اليد العاملة الصغيرة والمحتاجة، مقابل أجور زهيدة ومعاملة غالباً ما لا تكون جيدة، كما شاهدنا في جولتنا، فعدد كبير من الأطفال يمارسون أعمالاً صعبة وشاقة، تنعكس سلباً على صحتهم الجسدية والنفسية، مثل الأعمال الزراعية والعتالة والبناء والنجارة وغير ذلك…
مع تفاقم الأزمة الاقتصادية، في الأعوام الأربعة الأخيرة تفشّت ظاهرة عمالة الأطفال، لا سيما في طرابلس، أفقر مدينة في شرق حوض المتوسط، مع ما يعنيه ذلك من تسرّب مدرسي وأخطار تواجه الأجساد الصغيرة التي تتحمل ظروفاً قاسية.
تؤكد «منظمة اليونيسف» أن «160 مليون طفل يعملون في العالم، فيما الرقم مرشح للازدياد». رداً على هذه الظاهرة العالمية، رفعت الأمم المتحدة سنة 2022 شعار «الحماية الاجتماعية الشاملة لإنهاء عمالة الأطفال» بعدما فتكت الأزمات الاقتصادية العالمية بالأطفال في كل العالم، وذلك على اعتبار أنهم العنصر الأضعف في المجتمع.
أما بالنسبة إلى لبنان، فتقدر رئيسة وحدة مكافحة عمل الأطفال في وزارة العمل نزهة شليطا أن حوالى 100 ألف طفل يعملون، وهو رقم مرشح للإزدياد بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والصحية التي يعيشها لبنان. في المقابل، أحصت بلدية طرابلس 1020 طفلاً يعملون فيها وذلك بعدما أجرت مسحاً لواقع عمالة الأطفال في المدينة، فيما تكفي جولة قصيرة بين أسواق المدينة لتبين أن الرقم أعلى علماً أن أرباب العمل غالباً ما لا يصرّحون بعمل الأطفال لديهم.
يمكن لأي مار في شوارع طرابلس، وبخاصة تلك التجارية والفقيرة منها، مشاهدة أطفال يعملون في نقل الأغراض الثقيلة أو شتى الأعمال الشاقة الأخرى. في الواقع، أضحت هذه الظاهرة أشبه بـ»الأمر الطبيعي» وهذا هو الخطر الداهم والحقيقي، لأن أخطر ما في الأمر هو العادة دون أن يقوم المسؤولون بفعل أي شيء للحد من عمالة الأطفال.
أما أسباب عمالة الأطفال في طرابلس فهي كثيرة ومتنوعة، وهي بحسب إحصاء لعَينة من الأطفال أعدته «منظمة اليونيسف» حول هذه الظاهرة في شمال لبنان وعكار، على النحو التالي: 65 في المئة من الأطفال أجابوا أنهم يعملون لتأمين دخلهم الشخصي ولتخفيف الأعباء المالية عن عائلاتهم، فيما 26 في المئة منهم أجابوا أنهم يريدون «تعلّم مصلحة تؤمن مستقبلهم» لأنهم تركوا مقاعدهم الدراسية، و8.5 في المئة منهم أجابوا بأنهم لا يزالون في المدرسة لكنهم يعملون خلال فصل الصيف.
المخاطر الجسدية والنفسية
تؤدي عمالة الأطفال إلى نتائج مباشرة وأخرى غير مباشرة. يروي الأب مارون الترس قصة قريبه طوني، الذي كان في الخامسة عشرة حين قرر أن يعمل لكي يساعد أهله مادياً ويتمكن من الدخول إلى الثانوية العامة، «لكن ظروف عمله كانت قاسية جداً، فكان يعمل في ورشة للبناء وبسبب عمله الشاق وقلة خبرته في هذا المجال، سقط طوني من على علو أربعة طوابق جثة هامدة على الأرض».
هذا مثل من أمثلة كثيرة لا تُحصى عن الآثار المباشرة لعمالة الأطفال. أما عن تلك غير المباشرة، فتشرح الأخصائية الاجتماعية والخبيرة في مجال الحماية الأسرية رنا غنوي عن الأزمات الجسدية والنفسية التي يعيشها الأطفال الذين يعملون، وترى أن «عمل الأطفال يشكّل بالأساس مصادرة لطفولة وتشويهاً لها، فيما ينبغي أن يعيش الأطفال في جوّ من اللعب والدراسة وغياب للمسؤوليات الكبيرة». كما تضيف بأن الكثير من الأطفال «يعملون في أعمال خطرة كالبناء وميكانيك السيارات أو الكهرباء، فتسبب لهم مشاكل جسدية خطيرة أو حتى نفسية كأن يحرق الطفل مراحل حياته، كما يمكن أن يعتبر نفسه قد أصبح مسؤولاً بالمقارنة مع بقية الأطفال، فتتكوّن لديه نظرة فوقية متعالية تجاه أبناء جيله من الأطفال، أو تتأثر حياته المستقبلية حين يحاول أن يستعيد جزءاً من طفولته الضائعة عندما يُصبح كبيراً في السن».
«إتفاقية حقوق الطفل»
يؤكد المحامي أمين بشير أنّ لبنان صادق على «اتفاقية حقوق الطفل» سنة 1990، وهي اتفاقية تلزمه أن يحترم بنودها التي تدعو إلى احترام حقوق الأطفال ومنع استغلالهم. تعهد لبنان كذلك أن يطبّق تلك بنود عن طريق برامجه الحكومية، لكن تراخي الدولة اللبنانية كما الأزمة الاقتصادية حالا دون تطبيق جدي وحقيقي للاتفاقية مما أدّى إلى ازدياد الظاهرة بشكل مخيف خصوصاً بالمجتمعات والأحياء الفقيرة من مدينة طرابلس.
في المقابل، وعلى الرغم من تأكيد القوانين اللبنانية على إلزامية التعليم للأطفال، فإن عدم تطبيق هذا الأمر يعود لأسباب مزدوجة تقع على عاتق الدولة اللبنانية من جهة والأهل من جهة أخرى. فالدولة ومسؤولوها بحسب بشير «تجاهلوا القانون واكتفوا بالمطالبة بتطبيقه بالمناسبات الإنتخابية والسياسية، أما الأهل فتماهوا مع الموضوع إما بسبب جهلهم وعدم مسؤوليتهم، وإما لأسباب تتعلق بكتم قيد أولادهم لأسباب مالية مما يُصعّب عليهم الانخراط في المدارس أو حتى الاستمرار في التعليم ضمن الصفوف العليا، وهذه الظاهرة تنتشر بشكل كبير من دون معالجة».
مبادرات
أمام ازدياد ظاهرة عمالة الأطفال في طرابلس، برز بصيص نور من خلال المبادرات الفردية التي تقوم بها الجمعيات الأهلية أو الأفراد على قاعدة «لا تنتظر الدولة الغائبة بل ساعد نفسك». وعلى الرغم من أن المساعدة والحماية الإجتماعية تُعدان من واجبات الدولة والسلطات المحلية بشكل أساسي، عمد الناشط الاجتماعي محمد محمود العمر إلى تأسيس مركز «تجربة» وإدارته حيث تعهد من اليوم الأول لتأسيسه في منطقة باب الرمل في طرابلس أن يعلّم الأطفال ويكسبهم مهارات دراسية ومهنية، فكان ذلك بعد ما شاهده من إهمال وظلم وحرمان يتعرض له هؤلاء الأطفال.
يضم المركز اليوم حوالى 120 طفلاً وطفلة من منطقة باب الرمل والمناطق المحاذية لها، وهم يتدربون ويتعلمون المناهج التعليمية والمهارات الحياتية والمهنية لتقوية قدراتهم ليكونوا على استعداد لمواجهة المشاكل التي تحيط بهم. هذا ويعمل في مركز «تجربة» بين 6 و8 موظفين من المعلمين والإداريين إضافة إلى 25 متطوعاً ومتطوعة.
على غرار «تجربة»، أسس الأستاذ نزار الآغا جمعية «هِمة» في منطقة القبة الطرابلسية، وذلك بمبادرة شخصية منه لمساعدة مجتمعه وإيماناً منه بأهمية التعليم وتمكين الجيل الصاعد ليكون «جيل المستقبل المُشرق». وكان الآغا قد تبرع سابقاً بشقته الخاصة، وبمساعدة أخيه تمكن من تجهيزها لكي تفي بغرض التدريس، وعملا بالتعاون مع مجموعة من أصدقائهما في إعداد دورة صيفية مجانية تمكنّت من تعليم عشرات الأطفال.
يُخبر الآغا عن المشاكل والصعوبات المالية التي تحيط بالمؤسسة لكنه يصرّ على استكمال المشروع بمساعدة الخيّرين، فـ»المؤسسة تساعد الأجيال المستقبلية ليكتسبوا الخبرات اللازمة والمطلوبة».
طرابلس التي عرفت الحرمان منذ سنوات طويلة، سئمت الوعود الكاذبة والشعارات، لذلك فضّل بعض أبنائها أن يجترحوا حلولاً ومبادرات محلية بدلاً من البكاء على الأطلال. ولكن هذه المبادرات تبقى محدودة وغير كافية، بانتظار أن تتحرك المؤسسات الرسمية لتنقذ آلاف الأطفال من التسرب المدرسي ومخاطر العمل الجسدية والنفسية.