نار تحت الرماد.. “التسريح التعسفي” يضع الحكومة السورية أمام الامتحان الصعب
يحذر اقتصاديون وخبراء من “قنبلة موقوتة” قد تنفجر بأي لحظة، في سوريا، التي تعاني أصلا من وضع سياسي وأمني واقتصادي هش، وذلك على خلفية عمليات التسريح الواسعة التي بدأتها الإدارة السورية الجديدة في صفوف موظفي القطاع العام في البلاد.
وبين مَن يرى في عمليات التسريح “الممنهجة” أمرا طبيعيا بسبب الفائض الكبير في أعداد الموظفين، والذي نتج عن سياسة النظام السابق، الذي كان يشتري ولاءات الناس عبر تعيينهم بعقود عمل (لا تسمن ولا تغني من جوع)، وأحيانا من دون أن يقدموا أي قيمة مضافة في المؤسسات التي يعملون فيها، وبين من يرى أنه ليس من صلاحيات هذه الحكومة “المؤقتة” اتخاذ هذا النوع من القرارات؛ لأنها حكومة تصريف أعمال لا تحظى حتى الآن بالشرعية الوطنية والإجماع.
حملة تسريح
وبدأت الحكومة المؤقتة في سوريا، التي تولت حكم البلاد بعد سقوط نظام بشار الأسد يوم 8 كانون الاول 2024 بإجراءات إدارية واسعة تتعلق بتقليص أعداد موظفي القطاع العام.
واتخذت تلك التخفيضات أشكالا عدة، منها منح العاملين بالدولة إجارة إجبارية لمدة ثلاثة أشهر وتحويلهم إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل، ومنها إنهاء عقود الموظفين على بعض أنواع التعيينات؛ كتعيين المسرحين من خدمة الجيش التي كان النظام السابق يكافئ فيها جنوده بعد الخدمة، أو تعيين “ذوي الشهداء” من جنود وضباط جيش النظام الذين قتلوا في الحرب، ومنها الفصل التعسفي المباشر دون تبرير الأسباب.
ووفقا لمصادر متقاطعة تحدث معها “إرم نيوز”، أنهت حكومة الإنقاذ الحالية بشكل مؤكد عقود 700 موظف في مديرية صحة درعا، بحجة وجود فائض كبير في المديرية، و183 موظفا في القصر العدلي بمحافظة اللاذقية، وعقود 28 موظفا في قصر العدل بمحافظة حلب، ومنحتهم أجراً لمدة ثلاثة أشهر يعادل أجرهم الذي كانوا يتقاضونه في شهر كانون الأول 2024 (لايتجاوز 20 دولارا في الشهر).
كما أنهت الحكومة عقود 67 عاملا في معمل أحذية السويداء بالطريقة ذاتها أيضا، ومنحت إجازات إجبارية لـ 109 موظفين من هيئة التخطيط والتعاون الدولي في دمشق وفروعها في المحافظات السورية لمدة ثلاثة أشهر وأحالتهم جميعا إلى وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل.
وفي وزارة الإعلام، أنهت الحكومة عمل نحو 300 موظف، فيما تركت نحو 30 من عمال التنظيف والضيافة. في حين تتوجه الأنظار إلى الهيئة العامة للإذاعة والتلفزيون، التي كانت توظف نحو 5000 شخص وفقا للمصادر، فيما يتوقع أن يجري تسريح معظم هؤلاء.
قرار “غير قانوني”
الأكاديمية والباحثة الاقتصادية، الدكتورة رشا سيروب، حذرت من عدم شرعية الخطوة التي تقوم بها حكومة الشرع، وقالت “بالرغم من معرفتنا بمدى الترهل في بنية الوظيفة العامة، والخلل الكبير في آليات التعيين والتوظيف، وبأن القطاع العام بحاجة إلى إعادة هيكلة وتنظيم، إلا أن إعادة الهيكلة ليست من صلاحيات حكومة تصريف الأعمال”.
وأشارت سيروب في تصريح لـ”إرم نيوز”، إلى أن صدور قرارات بفصل الموظفين بناء على أحكام قانون العاملين الأساسي موقعة من قبل الوزير المعني، يشي من بين أمور عديدة، بعدم كفاءة وضعف واضح لدى الوزير في حكومة تصريف الأعمال الذي اتخذ القرارات بفصل الموظفين وكأنه رئيس مجلس الوزارء”.
وأوضحت سيروب أن “القانون واضح (طالما القرارات تصدر بموجب القانون)، فقرار الفصل يأتي من رئيس مجلس الوزارء (وليس من الوزير) بناء على اقتراح لجنة مؤلفة من وزير العدل، ووزير الشؤون الاجتماعية والعمل، ورئيس الجهاز المركزي للرقابة المالية.”
وقال أسد لـ “إرم نيوز”: سوف تؤدي عمليات التسريح تلك وفي ظل عدم وجود وضوح حول مستقبل ومصير أولئك المسرحين من العمل بعد مدة الثلاثة أشهر، أو عن مصير الذين تم الاستغناء عنهم نهائيا، إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل”.
وتابع “وإذا ما أضيف لما سيتم تسريحه من الموظفين المدنيين، أفراد الجيش والشرطة والأمن والجمارك التابعين للنظام السابق، فإن الاقتصاد السوري سيكون أمام موجة بطالة كبيرة وواضحة المعالم، ومع توجهات الحكومة الجديدة للتخلي عن الكثير من المنشآت الخاسرة في القطاع العام أيضا فإن موظفين جددا سينضمون إلى قائمة العاطلين عن العمل أيضا
ويضيف الأكاديمي السوري “في ظل ضعف استثمارات القطاع الخاص، وتراجع الدور الحكومي للتوظيف، وتأخر عمليات إعادة الإعمار القادرة على استيعاب جزء كبير من الأيدي العاملة فإن فرص حصول تلك الأعداد الكبيرة من المسرحين والمفصولين ستكون محدودة جدا”.
وتوقع أسد أن يتحول بعض هؤلاء المسرحين إلى الأعمال الاقتصادية الهامشية، وقد يقعون مجددا في دائرة الفقر وانعدام أمن الدخل وزيادة معدلات الفقر، وخاصة في ظل غياب أي حديث عن برامج حماية اجتماعية، أو برامج إعادة تدوير للعمالة في أماكن عمل جديدة.
ورأى أنه من المرجح على المدى الطويل أن تتسبب تلك البطالة الكبيرة بأنواع مختلفة من المشكلات الاجتماعية أيضا، كأعمال العنف والسرقات والجرائم وغيرها، “لكن الأخطر في ظل الوضع الأمني الهش والفوضى هو الاحتقان الذي قد يقود إلى الفوضى التي نخشى جميعا منها”.
احتقان شعبي في ظل هذه القرارات “غير القانونية” والتي قد ترمي مئات آلاف السوريين إلى قاع الفقر، رغم ضحالة الرواتب التي يقبضونها، يحذر العديد من الخبراء من أن هذه الموجة الواسعة من التسريحات – سواء كانت محقة أم لا – فإنها ستشعل فتيل أزمة سيكون من شأنها أن تهدد السلم والأمن في البلاد.
ووفقا لخبير سوري مقيم في الخارج، رفض الكشف عن اسمه، فإن المشهد يبدو قاتما، ذلك أن “مسألة الرواتب والعمالة ستكون قنبلة جاهزة للانفجار”، وقال إن المشكلة ستستمر في التفاقم ليس فقط بسبب التسريح، وإنما بسبب طلبات التوظيف الجديدة، من قبل السوريين العائدين من الخارج، والذين سيجدون أن من حقهم الحصول على عمل بعد سنوات التهجير،
وتساءل: كيف ستؤمن لهم الحكومة الوظائف في ظل هذا الواقع.. وكيف سيبدو المشهد فيما لو طردت الحكومة نصف مليون موظف وأحلت مكانهم نصف مليون آخرين؟
وخلص إلى القول: إنها “وصفة جاهزة للانقسام والجوع وإنتاج دورة عنف جديدة”، مشيرا إلى ظهور بوادرها في ازدياد جرائم السرقة والخطف والقتل، بينما أقل تجلياتها بشاعة، هو الاحتجاجات التي تخرج كل يوم في عدة محافظات سورية، احتجاجا على عمليات التسريح المتواصلة.