كيف فاز أمين معلوف عالياً بالأمانة الدائمة للأكاديمية الفرنسية؟

أمس الخميس كان موعد الأكاديمية الفرنسية الشهيرة بـ”مجمع الخالدين” les immortels التي أسسها الكاردينال ريشيليو سنة 1635 على عهد لويس الثالث عشر لانتخاب أمين السر الدائم لهذه الهيئة الرفيعة الأولى في فرنسا.
وهي المسؤولة والسّاهرة على تجويد الآداب وتحيين قاموس اللغة الفرنسية والمصادقة على المصطلحات الجديدة، وتأهيلها المستمر لمواكبة استخدام الفنون والعلوم.
إنه حدث مهم في الأوساط العلمية الثقافية في فرنسا وباريس خاصة، لمجْمع تعود الوصاية الكبرى عليه لرئيس الجمهورية، ويحل أمين سره بالمرتبة 24 في تراتبية الدولة الفرنسية. هو حدثٌ استثنائي لأن من يشغَل هذا المنصب شأنُه شأنَ الأربعين عضواً من أعضاء الأكاديمية يبقون في مقاعدهم (لكل واحد رقم) مدى الحياة، وعند شغور المقعد يقع التنافس عليه بترشيحات تتنافس بلا هوادة بهذا المقام الرفيع في جمهورية الآداب والعلوم. لا يضاهيها إلا “الكوليج دو فرانس” أعلى مؤسسة أكاديمية للتدريس بإشراف صفوة الباحثين.
ليس من عادة أهل قصر مازران في رصيف كونتي على الضفة اليسرى لنهر السين قبالة قصر اللوفر أن تهتز بنايتهم التي تعود إلى القرن 17، فتقاليدها المتوارثة وباستثناءات معدودة جداً مستقرة وشديدة الوقار، عددهم أربعون، وبلغوا منذ تأسيس بيتهم الفخم 740 عضواً بنسبة تمثيل ضئيلة جداً للنساء، إذ كانت الروائية مارغريت يورسونار أول عضو ولجتها بعد جهد عسير (1980).
ومتعارف أن أمين السّر الدائم للأكاديمية يشير أو يوحي قبيل رحيله المحتوم بمن يخلفه، وقد حصل هذا مع موريس دروان الوزير والكاتب المؤرخ الذي ترأّس البيت من 1966 إلى 2009 وهو من أشار على زملائه ومحيطه باختيار Hélène D’Encausse المؤرخة المتخصصة في الثقافة الروسية خلفاً له، ومنذ 2009 إلى أن وافتها المنية في الخامس من آب (أغسطس) وهي أمين سر دائم للأكاديمية الفرنسية تقودها بصرامة حتى لقبت “القيصر”.
لم توص القيصر بأحد، ولا أوحت بشخص من حاشيتها، كثيراً ما ردّدت أنها ستعمل إلى الرمق الأخير.
بعد مواراتها الثرى أصبح لزاماً تعيين خلَف لها، أي انتخابُه، وهو ما اتفق الأعضاء على الإسراع به حين اختاروا عميدهم بيير روزنبرغ لتنظيم عملية الانتخاب وتقرر إجراؤه بتاريخ 28 من الجاري.
كان القوم مهيئين ومرتاحين أنهم سيدلون بأصواتهم وينهون عملهم بانسجام وبدون أي توتر، فهم عقلاء جداً، وليس في نيتهم تحويل العملية إلى حلبة مصارعة، لا سيما واللاّعب، المرشّحُ واحد، وهو كاتب مكرّس وشخص رصينٌ، لبِقٌ، حفيٌّ بهم ومحبوبٌ من زملائه، لا عجب أن يصبح محط توافق، “وكفى الله المؤمنين القتال”، نعني الروائي المثقف الموسوعي أمين معلوف، اللبناني الأصل، تشهد له مؤهلاته وسيرته العطرة بجدارته لهذا المنصب، أبرزها حصوله على جائزة الغونكور الكبرى للرواية في فرنسا (1992) ومؤلفاته التي حازت شهرة عالمية من أبرزها “ليون الإفريقي” (1986) و”الهويات القاتلة” (1998) منحته مكانة روائي محنك، وحلقةِ وصل بين لغات وثقافات، ورسولٍ منفتح متشبِّعٍ بالإنسانيات، وهو زيادة على هذا وذاك على خلق عظيم.
نعم، كان كل شيء يمضي بسلام والخلف بعد وفاة دانكوس شبه معين ولا خُلف بين أهل الدار؛ إلى أن اشرأبّ العضو جان كريستوف روفان Jean Christophe Rufin بعنقه أطلَّ من عل وبارتباك على كرسي الأمانة الدائمة للأكاديمية، واستشار وفكّر، وبعد تدبّر تبدد حلمه ولم يقدم على الخطوة الحاسمة، خاصة لمَّا علم أن أمين معلوف هو المرشح المرجو والمقبول قبل أن يعلن ترشيحه رسمياً.