وصول منصة الحفر TransOcean Barents الى الرقعة رقم 9 في الخامس عشر من شهر آب المنصرم، أعاد احياء آمال اللبنانيين بقرب حسم الشك باليقين لجهة توافر النفط والغاز تحت مياه المنطقة الاقتصادية الخاصة للبنان. سيما وأن المهلة الزمنية لإنهاء حفر البئر الاستكشافي بحسب ما أعلنت الشركة المشغلة تقل عن سبعين يوماً، ما يعني أن النتيجة الأولية للحفر لا بد أن تظهر بعد انتهاء اعمال الحفر ووصولها الى العمق المحدد وربما خلال تلك الاعمال.
وما يُعزز فرص لبنان بتوافر الغاز والنفط تحت قعر بحره عامة وفي المنطقة المستهدفة حالياً بالحفر خاصةً، هو قرب المسافة التي لا تتعدى الــ 7 كلم بين البئر الذي بوشر بحفره وحقل كاريش الذي تتراوح احتياطاته بين 1,3 و2 تريليون قدم مكعب من الغاز الطبيعي والذي باشرت إسرائيل الإنتاج منه منذ تشرين الأول 2022. ما سمح للدولة العبرية الانتقال من دولة مستوردة للنفط إلى دولة مصدرة بعد أن استخرجت الشركة المشغلة Energean أول شحنة نفط منه في شباط 2023.
وهنا لا بد من التوقف عند المعطيات الجيولوجية التي شكلت مؤشرات إيجابية لتوافر احتياطات واعدة للبنان من الموارد الهيدروكربونية، لا سيما منها ما سبق واعلنته دائرة المسح الجيولوجي الأميركية منذ العام 2010 وعادت وأكدت عليه في العام 2021، عن احتمال وجود احتياطات من النفط والغاز بكميات واعدة في الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسطـ، يبلغ متوسطها 2,55 مليار برميل من النفط الخام. اما احتياطات الغاز فيبلغ
متوسطها 316,2 تريليون قدم مكعب، بعد ان اقتصرت تقديراتها في العام 2010 على احتياطات من الغاز متوسطها 175.2 تريليون قدم مكعب.
وكان لبنان قد أجرى منذ اربعينيات القرن العشرين وحتى نهاية الستينيات منه، العديد من المحاولات لاستكشاف النفط مع حفره عدة آبار استكشاف في مناطق مختلفة من البر اللبناني من دون الوصول الى نتائج ملموسة في حينه. وتجددت محاولات لبنان استكشاف موارده الهيدروكربونية في العام 1993 مع المسوحات السيسمية التي نفذتها شركة Geco-Parkla الفرنسية، وصولاً الى العام 2014 حين قامت شركة Neos GeoSolutions بمسوحات جوية جيولوجية شملت البر اللبناني، جاءت نتائجها مشجعة بدليل اقبال شركات عالمية على التأهل لاستثمار الاحتياطات التي دلت عليها هذه المسوحات.
إن تشابه التكوين الجيولوجي للحوض الشرقي لجهة وجود هياكل جيولوجية تتشكل من طيات وصخور مسامية وصخور اغلاق مناسبة لتوليد وتجميع الموارد الهيدروكربونية من النفط والغاز الطبيعي، اكدها تشابه نتائج الدراسات الجيولوجية والمسوحات السيسمية لليابسة والمنطقة الاقتصادية الخالصة اللبنانيتين، مع النتائج التي أعلنت عنها دائرة المسح الجيولوجي الأميركية. وبانتظار أن تتحقق الاكتشافات في لبنان، دحضت الاكتشافات الإقليمية ومباشرة الإنتاج من الحقول المكتشفة الشك باليقين.
وبالنسبة لاحتياطات لبنان المتوقعة، فقد قدرت الشركة النرويجية المتمركزة في بريطانية Spectrum، والتي أجرت مسوحات سيسمية ثلاثية الابعاد لساحل لبنان الجنوبي في العام 2012، حجم الاحتياطات المتوافرة فيه من الغاز الطبيعي بنحو 25 تريليون قدم مكعب (Tcf) واعتبرت ان الاحتياطات المتوافرة في تلك المنطقة هي من أغنى وأفضل احتياطيات الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.
وفي العام 2013 نشرت الشركة الفرنسية Beicip Franlab التابعة للمعهد الفرنسي للبترول والطاقات الجديدة، تقريراً اعتبرت فيه ان لدى لبنان احتياطيات من النفط تتراوح بين 440 مليون و675 مليون برميل وبمتوسط يعادل 557.5 مليون برميل، في المنطقة الشمالية على مقربة من الحدود مع سوريا وقبرص، فيما قدرت احتياطياته من الغاز الطبيعي بـ 15 تريليون قدم مكعب. مع العلم أن المسح الزلزالي لم يُغطِ سوى 80% من اجمالي مساحة المنطقة الاقتصادية الخالصة البالغة 22 ألف كلم مربع.
وتجدر الإشارة الى أن النتيجة السلبية التي أسفر عنها التنقيب في الرقعة رقم 4، بحسب ما أعلنت عنه شركة Total Energies بعد انتهائها من حفر البئر الاستكشافي، لا يلغي احتمال توافر احتياطات في تلك الرقعة خاصة وأن التنقيب اقتصر على حفر بئر واحدة. علماً أن احتمالات الوصول الى نتائج إيجابية من حفر اول بئر هي نسبة متدنية، وتقوم شركات التنقيب في حال أدى بئر الاستكشاف الى نتائج إيجابية، بحفر ما لا يقل عن ثلاثة الى خمسة آبار لتحديد وتقييم حجم الاحتياطات في البقعة المستهدفة.
ويواجه الحفر الاستكشافي في الرقعة رقم 9 ثلاثة احتمالات تتراوح بين العثور إما على احتياطات تجارية تسمح بتصدير جزء منها وتلبية حاجة السوق المحلية بالجزء الآخر، وإما اكتشاف كميات متواضعة لا تغطي تكاليف تطوير الحقل والاستخراج منه، أما الاحتمال الأخير فهو ان يكون الحقل جافاً. وأياً كانت نتيجة حفر البئر الأولى، فان ذلك لا يُعفي الشركة المشغلة من حفر آبار أخرى في الرقعة رقم 9 للوصول الى المكمن الذي تتراكم فيه موارد من النفط والغاز.
وبغض النظر عن حجم الاحتياطات من الموارد الهيدروكربونية المتوافرة في قعر المنطقة الاقتصادية الخالصة، فإن ثمة فترة زمنية لا تقل عن ثلاث
سنوات ويجب ألا تزيد على الست سنوات يتطلبها التوصل الى استثمار هذه الموارد، ليبدأ بعدها لبنان بالحصول على العائدات المالية. وذلك لما يتطلبه الحفر الاستكشافي من وقت، وكذلك اعمال تطوير البئر او الآبار لتصبح جاهزة للمباشرة بالإنتاج، الذي يتوقف على مستوى أسعار النفط والغاز في الأسواق العالمية.
وقد دلّت أعمال التنقيب التي اجرتها الدول المطلة على الحوض الشرقي للبحر الأبيض المتوسط على توافر احتياطات في معظمها تجارية، ما يجعل من المفيد الإضاءة على الإيرادات المتوقعة من استخراج النفط والغاز. سيما وأن عائدات الدولة من استخراج النفط والغاز لا تقتصر على حصتها من بترول الربح، بل يشمل الرسوم والضريبة على أرباح الشركات المشغلة وغيرها من المتوجبات على الأنشطة المتعلقة باستثمار الثروة الهيدروكربونية.
وتتوزع الإيرادات المالية بعد المباشرة بالإنتاج على ثلاثة مصادر أساسية، المصدر الأول ويُسمى الإتاوة او حقوق الملكية (Royalties)، وهي تتوجب على صاحب الحق مقابل جميع الكميات المستخرجة من المكامن المنتجة في المياه البحرية وتلك الخاضعة للتطوير. وتستوفى الإتاوة بحسب أسعار النفط والغاز في تاريخ الاستخراج، ويعود للدولة الخيار بين تقاضي هذه الإتاوة نقداً أو عيناً وفقاً للنسب بين كميات النفط والغاز المستخرجة.
وحددت المادة 22 من المرسوم 43 لعام 2013 نسبة الإتاوة المتوجبة على الغاز بــ 4٪، في حين حددتها على النفط بنسبة تتراوح من 5% الى 12% بحسب متوسط حجم الإنتاج اليومي خلال الشهر، بحيث ترتفع نسبة الإتاوة على الكمية التي تزيد فقط. مع العلم أن العديد من الدول المنتجة تفرض نسبة إتاوة اعلى تصل الى 25% وتعتمد النسبة نفسها على كل من للنفط والغاز. والإتاوة بمثابة رسم ايجار للبقعة التي ينم الاستخراج منها، وتعـد
جـزءاً مـن نفقـات الإنتـاج التي يتم تنزيلها مـن الـدخل الإجمالي للشركة المشغلة.
الى جانب الاتاوة التي تستوفيها الدولة من الشركات المشغلة، يتوجب على الشركات صاحبة الحقوق البترولية والشركات المُشغّلة أن تُسدد ضريبة عن الأرباح التي تحققها خلال استثمار النفط والغاز، وتبلغ نسبتها 20% من النتيجة الخاضعة للضريبة، وفقاً لما نصت عليه المادة السابعة من القانون رقم 57 لعام 2017. وبذلك تتساوى الشركات البترولية المشغلة مع غيرها من الشركات التجارية، وتتعزز إيرادات الدولة من مصادر جديدة منتجة.
أما المصدر الأهم لإيرادات الدولة من استخراج النفط والغاز فهو بترول الربح، ويُقصد به الكميات المتبقية من النفط والغاز المستخرجين من المكامن بعد حسم كميات الكلفة، أي كلفة الإنتاج التي يتطلبها القيام بالأنشطة البترولية على اختلافها. ويجب الا تقل حصة الدولة الدنيا من بترول الربح عن 30%، بحسب ما نصت عليه المادة 24 من المرسوم 43 لعام 2013 المتعلقة بتوزيع حصص بترول الربح بين الشركات أصحاب الحق والدولة. فيما حددت الفقرة الثالثة من المادة 23 من المرسوم 43/2017 الحد الأقصى لاسترداد التكاليف بــ 65٪ من البترول المتاح.
تتوقف الإيرادات المرتقبة من النفط والغاز وأياً كانت تسميتها ومهما بلغت نسبها، على حجم الاحتياطات المتوقع اكتشافها لجهة أن تكون تكون تجارية ام لا، وهي تتوقف بالقدر عينه على مستوى الأسعار في تاريخ الإنتاج. ذلك أن توافر كميات تجارية هو شرط للانتقال من الحفر الاستكشافي الى تطوير الآبار والمباشرة بالإنتاج، أما مستوى الأسعار فهو يُشكل الجاذب الأساسي للشركات العالمية للتنقيب عن الموارد الهيدروكربونية والاستثمار فيها.
وبالنسبة لأسعار النفط والغاز، فقد حافظت على مستويات مقبولة بعدما وصلت الى قُرابة الــ 140 دولاراً للبرميل غداة الحرب بين روسيا وأوكرانيا، ومن المتوقع أن تحافظ على ارتفاعها بفضل سياسات الدول المنتجة التي خفضت من انتاجها، كان أولها في تشرين الثاني من العام 2022 والثاني في شهر أيار الماضي ويستمر حتى نهاية العام 2023. أما بالنسبة الى إمكانية اكتشاف احتياطات تجارية في الرقعة رقم 9، تكفي الإشارة الى أن احتياطات حقل كاريش التي لا تتعدى الــ 2 تريليون قدم مكعب من الغاز كانت كافية لتطويره والإنتاج منه وصولاً الى التصدير.
ما يعني أن التفاؤل باكتشاف لبنان لاحتياطات تجارية من النفط والغاز يستند الى معطيات علمية وتجارب عملية للدول المحيطة، وكذلك الامر بالنسبة الى الإيرادات المالية المتوقعة من هذه الاكتشافات. إلا أن التحدي الأهم يكمن في الحوكمة الرشيدة لهذه الإيرادات لا في حجمها وحسب، خاصة وأن للبنانيين تجربة مريرة في استسهال القيمين على الشأن العام هدر مقدرات البلد المالية حتى لا نقول سرقتها، فيما يكاد السجال السياسي أن يُصبح ملهاة للشعب، بينما يستبيح بعض المتنفذين ثروات الوطن ويعيثون فيه فساداً، بعدما فرطوا بالمساحة الممتدة بين الخط 23 والخط 29 وبما تختزنه من احتياطات نفطية.