طوفان الأقصى… حرب بلا خريطة؟!
الحروب كالحرائق، يسهل إشعالها ويصعب إطفاءُها؛ والذي يدخل الحرب من دون خطّة يندر أن يجد طريقه إلى مخرجها. ومن يبدأها بلا أهداف بيّنةٍ ينتهِ إلى أن يكون هو هدفها.
أميركا دخلت العراق بخطة واحدة، إسقاط صدام حسين، واستبدال نظامه البعثيّ بنظام عميل، لكنهم استعدوا للحرب ولم يستعدّوا للسلام، ووضعوا عناوينَ رئيسيّة لأهدافهم، ولم يفصّلوا خطط تحقيقها. وبالنتيجة، نجحوا في الدخول، وفشلوا في البقاء أو الخروج.
وهكذا فعلت دول عظمى عبر التاريخ. فالإمبراطور الفرنسي نابليون اجتاح روسيا ثمّ قتل جيشَه صقيعُها. والزعيم النازي هتلر غزا نصف أوروبا، ثم انكسر على أسوار ستالينغراد. وفي العقود الأخيرة، احتلّ الرئيس العراقي صدام حسين الكويت، وقبلها المحمّرة، والرئيس الأميركي جورج بوش أفغانستان، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين مساحات من أوكرانيا، فتورّط كلّ واحد منهم، ووقع في مستنقعات استنزفت قواه، ولم يجد من ورطته مهرباً.
قال داهية العرب، عمرو بن العاص، لأمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان، رضي الله عنهما، “والله ما دخلت في شيء قطّ لم أجد لي منه مخرجاً”. كان ذلك بعد أن ذهب على رأس وفد للتفاوض مع الروم في قلعة محصّنة. وعندما شعر بأن قائدهم أراد الغدر به، قال له: “أمّا وقد سمعت منك، فإنّي أرى أن أعود إليك مع قادة جيشي ليشاركوني الرأي”. فطمع بهم، وسمح له ووفده بالمغادرة سالمين. وكان عمرو قد درس التحصينات، ورأى فيها ما يمكن اختراقه. فلمّا عاد وضع خطة لاقتحام الحصن واحتلّه، ردّ معاوية، وكان أدهى: “أما أنا فإنّي لم أدخل في شيء وأردت الخروج منه”.
المقارنة بين “#طوفان الأقصى” و”حرب رمضان” تحتاج إلى تمحيص، بالرغم من التوقيت، الذي يوافق مرور الذكرى الخمسينيّة للهجوم المصري – السوري على إسرائيل في العام ١٩٧٣. ولعلّ الأقرب هو مقارنة العاصفة بحرب الـ١٩٤٧، أو حرب الـ١٩٦٧، أو حرب تموز الـ٢٠٠٦، مع الفوارق.
وفي كل الحالات، فإنّ الحق بيّن. فمن ينكر أن الصهاينة أوغلوا في التعدّي والظلم للشعب ال#فلسطيني، وتدنيس مقدّسات المسلمين والنصارى، بدعم أعمى من الغرب؟! ومن يجحد حق الفلسطيني في الدفاع عن أرضه وماله وعرضه؟! ومن يجهل رفض إسرائيل لمبادرات السلام العادلة؟!
الاختلاف، والخلاف، هو في خطة الحرب وأهدافها. ففي الحرب الأولى، التي انتهت بـ”النكبة”، والثانية التي انتهت بـ”النكسة”، والثالثة التي انتهت بدمار لبنان، لم تكن هناك خريطة طريق تحدّد تفاصيل الفعل وردّه، ومراحل المشروع، وما أعدّ له من عدّة وعتاد. كما أن الأهداف النهائية كانت غائمة، فالنصر هو الكسر، بلا تفصيل ولا بدائل ولا خيارات.
طرد اليهود من فلسطين لم يكن هدفاً واقعياً في الـ٤٨، وإلقاء إسرائيل في البحر لم يكن ممكناً في الـ٦٧، وتركيعها في عزّ قوتها وعنفوانها في الـ٢٠٠٦ كان استحالة. أمّا حرب رمضان فقد كانت الأهداف معقولة وممكنة التحقيق: استعادة سيناء وغزّة والجولان.
ولولا محاصرة الجيش المصري الثالث، وأخطاء الجيش السوري في الجبهة الشرقية، وخيانة وتخاذل بعض دول المواجهة والدعم، لربما أمكن من تحقيق النصر الكامل. فإسرائيل كانت على حافة الانهيار، لدرجة تفكير رئيسة الوزراء غولدا مائير في استخدام السلاح النووي، وإقامة أميركا جسرَ سلاح جوياً، وإعلانها حالة طوارئ لأسطولها في البحر الأبيض المتوسط وقواعدها في المنطقة.
وفي النهاية تحقق عدد من الأهداف الاستراتيجية، أبرزها استعادة سيناء وقناة السويس. وحقّ لمصر وحلفائها العرب، الذين نسّقت الأدوار معهم، وحصلت مقدّماً على تأييدهم ودعمهم، بقيادة “بطل العبور” و”شهيد القدس”، الملك فيصل بن عبدالعزيز، أن تسمّيه انتصاراً.
واليوم، يعيد التاريخ نفسه. فالإخوة المجاهدون في غزة أطلقوا حرباً خاطفة على الكيان الصهيوني بإمكانيات استخباريّة وعسكريّة ادهشت العالم، وأربكت العدو. وكما في كلّ مرة، جاء الرد الإسرائيلي سريعاً، عاصفاً، وقاسياً.
ولأن إخوتنا لم يفرّقوا بين الأهداف المدنية والعسكرية، فقد أعطوا لعدوهم المبرّر لقصف المدن والمخيمات والبنى التحتية، كما فعلوا في لبنان قبل قرابة العشرين عاماً. ولأنّ حماس تستخدم حرب العصابات، وفي غياب المواقع العسكرية، فإن تركيز الطيران والجيش الإسرائيلي كان أكبر على المناطق المدنية.
وكما أهمل المخططون لحرب تموز التنسيق مع الدول العربية، أو حتى الدولة اللبنانية التي يفترض أنهم تحت مظلّتها، واكتفوا بتلقي الدعم والتوجيه الإيراني، يكرّر المجاهدون الفلسطينيون نفس المنهج، فيتجاوزون السلطة الفلسطينية، ويخفون مخططاتهم عن الحكومات العربية، ثمّ إن وقع الفأس على الرأس، يطالبونها بالدعم والتدخل، ويخوّنون من لا يعلن الحرب معهم.
وعندما يُسأل المتحدثون الرسميون باسم حركة حماس عن أهدافهم من هذا التصعيد، يضعون تحرير المسجد الأقصى على رأس القائمة. ولكنّهم وهم يعدون بالنصر، أو يطالبون الجيوش والشعوب العربية بالقتال معهم، لا يقدّمون خطة تتجاوز الشعارات والخطب الحماسية، ولا يضعون للمجتمع الدولي مطالب يُمكن – بالدعم العربي – التفاوض حولها، ولا يستعدّون بحملة دبلوماسية لإقناع العالم بعدالة موقفهم.
هنا، يحقّ للمحلل السياسي أن يتساءل عن توقيت هذه العاصفة مع الجهود السياسية المبذولة لحل القضية الفلسطينية على أساس قيام دولتهم وعاصمتها القدس الشرقية، واستعادة المسجد الأقصى، ومنحهم حقوقهم المسلوبة، وعلاقة ذلك بالمتاجرين بهذه القضية الأزلية لمصالحهم السياسية والبنكية، وبأولئك المبرّرين والمسوّقين لكلّ مشاريعهم التدميرية للمنطقة العربية بأنها محطات على طريق تحرير القدس، وبتلك الأحزاب والزعامات التي بنت برامجها السياسية على وجود قضية شرعية تُلهب بها مشاعر الجماهير، وتؤجل من أجلها كلّ البرامج التنموية (فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة).
المطلوب فوراً وقف التصعيد من كل الأطراف، والعودة إلى مسار السلام. فالمبادرة العربية لا تزال على الطاولة، وعلى الحكومة الإسرائيلية تحديد موقفها بوضوح، فإما طريق الحلّ الشامل الذي يفتح أبواب التطبيع مع الأمتين الإسلامية والعربية، وإمّا مستنقع العنف والتطرّف ومصير التحوّل إلى دولة أكثر انعزالاً ونبذاً.
وعلى الإخوة المجاهدين إعادة رسم خريطة الصراع بما يحقق لهم مزيداً من التضامن العربي والإسلامي والتعاطف الأممي، وتحديد الأهداف المشروعة والواقعية بما يعزّز فرص النجاح على الأرض وطاولة المفاوضات