أحزاب لبنان تتفق على رفض حبس الصحافيين..وتكريس “حق التقاضي”
أفضت النقاشات في مسودة قانون الإعلام، في لجنة الإدارة والعدل بالبرلمان اللبناني، الى “إجماع” على رفض عقوبة السجن للصحافيين، مع حفظ حق المتضررين بمقاضاة المشتبه فيهم من الصحافيين، شرط ألا تصل العقوبة بتاتاً الى الحبس، حسبما قالت مصادر نيابية مشاركة في النقاشات.
وهذه النتيجة، جاءت بعد “استنفار” نيابي في اللجنة التي تناقش المسودة في الوقت الراهن، عندما فوجئ مشرعون بأن مسودة القانون الممهورة بتاريخ تموز/يوليو 2021، تحتفظ ببنود تنص على تجريم القدح والذم والتحقير بحق رؤساء الدول، وتنصّ على فرض عقوبات جديدة على التشهير ضد السفراء والبعثات الدبلوماسية في لبنان، وذلك خلافاً لكل المقترحات السابقة، وفي مقدمها الملاحظات التي وضعتها “مهارات” بالتعاون مع المشرّع غسان مخيبر في العام 2010، كون التجريم يتعارض مع مقدمة الدستور اللبناني الكافل لحرية الرأي والتعبير.نقاشات لجان البرلمانخلال النقاشات الأولى في لجنة الإعلام، وبعدها في لجنة “الإدارة والعدل”، حاولت بعض المداولات ربط عقوبة “الحبس” بـ”المسّ بالرموز الدينية أو رئيس الدولة أو إثارة النعرات الطائفية”، حسبما قالت مصادر مطلعة على النقاشات لـ”المدن”، وهو ما تمت مواجهته بشكل حاسم لرفض عقوبة الحبس بالكامل، قبل أن تُحال النقاشات الى اللجنة الفرعية المنبثقة عن “لجنة الإدارة والعدل” لدراسة مسودة قانون الإعلام، وبدأت عملها قبل نحو شهرين.
وأفضت النقاشات الى واقع أن القوى السياسية والأحزاب الممثلة لها في البرلمان، أجمعت على رفض عقوبة الحبس، حسبما يؤكد نواب مشاركون في النقاشات، لكن ذلك لا يعني “إلغاء حق المتضررين من اللجوء الى القضاء كونه الجهة الوحيدة المخولة إحقاق الحق”. ومع أن النواب يتشاركون التأكيد على مبدأ الحريات وحماية وجه لبنان، لكن النقاشات حين تدخل الى التفاصيل، يصبح النقاش أكثر حساسية.
ويُنتظر أن يتكرّس هذا الإجماع في اللجنة الفرعية، وبعدها في الهيئة العامة لمجلس النواب حيث سيتم اقرار القانون.
اللجنة الفرعية
في هذا الوقت، لم تصل اللجنة الفرعية بعد الى مناقشة بنود متصلة بالعقوبات على الصحافيين وشكلها وطبيعتها، لكن النقاشات العامة في لجنة الإدارة والعدل قبل الآن، “عكست رفضاً من قبل أعضاء اللجنة لعقوبة حبس الصحافيين”، حسبما يقول عضو اللجنة الفرعية النائب فراس حمدان لـ”المدن”، مشيراً إلى أن الاختبار “سيكون أولاً عندما نصل لهذه النقطة في اللجنة، ولاحقاً في الهيئة العامة”.
ويؤكد حمدان، وهو عضو “كتلة التغيير” في مجلس النواب، أن تجريم الصحافيين “أرفضه بالكامل، ولا مبرر له بالمطلق، لأنه يتنافى مع مبدأ حرية الرأي والتعبير ومع طبيعة لبنان الديموقراطية والتي تميزه عن سائر الدول المحيطة به”. كما تعهد بمواجهة اي اتجاه لتجريم الصحافيين أو حبسهم. وأشار الى ان التجريم على أساس الرأي “يتنافى مع دستور لبنان ومقدمته التي تنص على أن لبنان جمهوريّة ديموقراطيّة برلمانيّة، تقوم على احترام الحريّات العامّة، وفي طليعتها حريّة الرأي والمعتقد…”، كما تتنافى مع الشرعات والمواثيق العالمية التي وقع عليها لبنان، ومن ضمنها “الإعلان العالمي لحقوق الانسان”، و”الميثاق العربي لحقوق الإنسان” وكلها يكفل حرية التعبير التي يُنظر اليها على أنها ركيزة من ركائز الديموقراطية وتشكّل الدّعامة لجميع الحرّيات المدنية.
قوى سياسية
وتؤكد مواقف القوى السياسية في هذا الوقت، التوجّه العام نحو رفض عقوبة الحبس للصحافيين، من دون إسقاط حق التقاضي.
“القوات اللبنانية”
وأكد عضو كتلة “الجمهورية القوية” (القوات اللبنانية) النائب جورج عقيص خلال ندوة نظمتها “مهارات” في كانون الثاني/يناير الماضي، أن هناك 3 مبادئ عامة يجري العمل عليها في نقاشات مسودة القانون، وهي الحفاظ على دور لبنان الذي يعد “واحة لحرية التعبير”، وتخفيف القيود عن حق الوصول الى الاعلام، وعصرنة قانون الإعلام. ورأى عقيص، وهو رئيس اللجنة الفرعية المنبثقة عن “لجنة الإدارة والعدل”، “إننا نحتاج لإعادة نهضة للمحاكم، ونحتاج الى نظام ردع للإساءة لحق التعبير”، أما التعويض عن الأضرار “فيجب ألا يكون خارج المألوف”.
وكان موقف “القوات” واضحاً حين صدر الحكم على ديما صادق، إذ أكد النائب ملحم رياشي “انني كنائبٍ عن الأمة اللبنانية جمعاء، أدعو إلى اسقاط عقوبة السجن فوراً عن ديما صادق وإحالة القضية الى محكمة المطبوعات، وما زيدَ على ذلك من “إثارة النعرات الطائفية” فأقل ما يُقال فيه، انّو طق حنك”.
“التقدمي الاشتراكي”
من جهته، يرفض عضو كتلة “اللقاء الديموقراطي” (الحزب التقدمي الاشتراكي)، النائب بلال عبد الله، الخوض في تفاصيل المناقشات في اللجنة الفرعية المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل لدراسة مسودة قانون الإعلام، لكنه يؤكد لـ”المدن” “إننا في المبدأ مع حرية المعتقد وحرية إبداء الرأي”.
“حزب الله”
غير أن عضو كتلة “الوفاء للمقاومة” (حزب الله) يذهب الى تفسير أكثر وضوحاً، بالتأكيد على “إننا تفاهمنا على ألا يكون هناك حبس للصحافيين”، وعلى “أن تكون هناك حرية مسؤولة”، وهو موقف الكتلة النيابية بطبيعة الحال، مشيراً الى إجماع لدى أعضاء اللجنة على رفض الحبس الاحتياطي للصحافيين، من دون إسقاط حق المتضررين في اللجوء الى القضاء.
وتتجسّد مفاهيم “ممارسة الحرية المسؤولة”، بـ”عدم المسّ بالسلامة الأمنية ووحدة البلاد، وعدم التحريض، وعدم ممارسة القدح والذم”، حسبما يقول الحاج حسن لـ”المدن”. وفي حال خرق تلك المعايير، فإن المتضرر “يحق له اللجوء الى القضاء، وهي محكمة مدنية، تتميز بسرعة بتّ القضايا”.
ويشرح الحاج حسن: “من حق المتضرر الذي يعتبر أن هناك اتهاماً له، أو ممارسة أخطاء بحقه مثل القدح والذم، من حقه التقاضي”، مضيفاً: “هذا حق لأي متضرر، لكننا طلبنا أن يكون البت بالدعاوى سريعاً، حتى يحصّل المتقاضي حقه بالقضاء”، لافتاً الى أن المقترحات حول العقوبة “تتراوح بين تنبيه وتوجيه إنذار، وتصل الى عقوبة مالية وفي أقصاها التوقيف عن العمل”. ويشير الى اللجنة “تفرّق بين الانتقاد الذي يعد حقاً من حقوق الرأي والتعبير، وبين شتم العقائد مثلاً”.
واللافت أن النقاشات لا تفرق بين شخص يتعاطى الشأن العام، وأي شخص آخر، خلافاً لممارسات قائمة في دول أوروبية في هذا الوقت، تعتبر أن انتقاد الشخصيات العاملة في الشأن العام، مسموح.
يقول الحاج حسن إنه في حال “التعرّض لمقام الرئاسة، فمن حقه أن يلجأ الى القضاء لتحصيل حقه”، موضحاً أن “انتقاد الرئاسة شيء، والتعرّض بالشتيمة شيء آخر”. ويضيف: “الحق بالتعبير عن الرأي مكفول، لكن الذي يعتبر نفسه متضرراً، سواء كان رجلاً سياسياً أو شخصية دينية أو أي مسؤول أو مواطن عادي، من حقه اللجوء الى القضاء، ولا يمكن حرمانه من حقه بالتقاضي، بمعزل عن صفته أو مسؤوليته”.
ومع إقرار الحاج حسن بأن مواقع التواصل ليست وسائل إعلام، إلا أنه يؤيد منح المتضررين من مخالفة عبر مواقع التواصل، حق اللجوء الى القضاء في المحكمة نفسها حيث تتم مقاضاة الصحافيين.
“حركة أمل”
وتتقاطع كتلة “التنمية والتحرير” (حركة أمل) مع الموقف السابق وتؤيده، إذ يؤكد عضو الكتلة النائب قبلان قبلان لـ”المدن” “إننا نعارض الحبس الاحتياطي، لكننا نشدد على حماية كرامات الناس بحقهم بالتقاضي”. ويشرح: “نرفض تجريم الانتقاد حتى لو كان حاداً، وهو حق لكل انسان، وحق الصحافي بالانتقاد مكفول بطبيعة الحال، لكننا نرفض أن تتفلت الناس وتمس بكرامات البشر وتمارس الشتائم والاتهامات والذمّ، كما نرفض أن يخرج الصحافي عن دوره كصحافي وينزلق الى الشتيمة، لذلك يجب أن يكون هناك حق للمتضررين باللجوء الى المحاكم لحماية كراماتهم وتحصيل حقوقهم”.
حكمان في العامين الأخيرين
الحال أنه، على مدى 14 عاماً من النقاشات والمقترحات، تكرر رفض الحقوقيين اللبنانيين لأي عقوبة متصلة بحبس الصحافيين، وازداد الرفض تأثيراً إثر حكمين قضائيين هزّا معظم الأحزاب السياسية والكتل النيابية المؤسسات الحقوقية.
ففي 26 تشرين الثاني/نوفمبر 2021، حكمت المحكمة العسكرية على مراسل جريدة “الأخبار” رضوان مرتضى بالسجن 13 شهراً بدعوى تحقير الجيش. وفي 11 تموز/يوليو 2023، أصدرت القاضية المنفردة الجزائية في بيروت، روزين حجيلي، حكماً قضائياً بسجن الاعلامية ديما صادق لمدة سنة في الدعوى المقامة ضدّها من قبل التيار الوطني الحر برئاسة النائب جبران باسيل، بجرائم القدح والذم وإثارة النعرات الطائفية.
أثار الحكمان جدلاً واسعاً في لبنان، لأنهما يعدان سابقة لجهة إصدار أحكام السجن على صحافيين، أو في قضايا الرأي والنشر، لكن الحكم، وفق القانون، قائم. وحسب قانون العقوبات الصادر في العام 1943، تصل عقوبة “الذم” الى السجن حتى سنتين إذا وقع على رئيس الدولة، والسجن حتى سنة إذا وجّه إلى المحاكم أو الجيش أو الإدارات العامة أو إلى موظف يمارس السلطة العامة من أجل وظيفته أو صفته، والسجن حتى ثلاثة أشهر إذا وجّه الى موظف بسبب وظيفته أو صفته.
أما عقوبة “القدح” فتصل إلى السجن حتى سنة إذا وقع على رئيس الدولة، وإلى ستة أشهر إذا وجّه إلى المحاكم أو الجيش أو الإدارات العامة أو إلى موظف يمارس السلطة العامة من أجل وظيفته أو صفته.
وأشار تقرير “منظمة العفو الدولية” في 28 تشرين الثاني/نوفمبر 2023 الى زيادة في الملاحقات القضائية التي تستهدف الصحافيين والنشطاء وغيرهم من منتقدي الحكومة في السنوات الأخيرة. وقد استُخدمت قوانين القدح والذم مراراً وتكراراً كتكتيك لترهيب الأفراد الذين ينتقدون السلطات والحدّ من قدرتهم على العمل بشكل مستقلّ والإبلاغ بحرية عن القضايا الاجتماعية والاقتصادية وغيرها من القضايا الحقوقية.
عقوبة الحبس في مسودّة القانون
ولم تمنع الدعوات الحقوقية، واضعي مسودة اقتراح قانون الاعلام، من إعادة إدراج حبس الصحافيين. ففي المسودة الخاضعة للنقاش الآن في البرلمان، وهي نسخة تموز 2021،
نصت المادة 70 على الآتي: “إذا تعرضت إحدى وسائل الإعلام لشخص رئيس الدولة بما يتضمن قدحاً أو ذماً أو تحقيراً بحقه أو بحق رئيس دولة أجنبية غير دولة العدو الإسرائيلي، يكون للنيابة العامة الاستئنافية المختصة تحريك دعوى الحق العام بدون أي شكوى”.
وتضيف المادة في فقرتها الثانية: “إذا كان النشر قد تمّ في إحدى المطبوعات، تتخذ محكمة الاستئناف الناظرة في قضايا الإعلام بعد وضع يدها على الدعوى تدبيراً بمصادرة النسخة التي حصل فيها التعرض. إذا كان النشر قد تمّ بإحدى الوسائل المرئية أو المسموعة أو الإلكترونية تتخذ هذه المحكمة قراراً نافذاً على أصله بوقف النشر المذكور تحت طائلة غرامة إكراهية تحددها”. ويعاقب مرتكب الجرم، وفقاً للمادة، “بالحبس من ستة اشهر الى سنتين وبالغرامة من عشرة أضعاف الحد الأدنى للأجور إلى عشرين ضعفاً، أو بإحدى هاتين العقوبتين”.
أما المادة 71 من المسودة فتنصّ على أن “يقضى بنصف العقوبة المنصوص عليها في المادة السابقة إذا وقع الجرم على أحد السفراء أو أحد رؤساء البعثات الدبلوماسية المعتمدة في لبنان”.
رفض حقوقي
قبل وصول المسودة الى اللجنة، وضعت منظمة اليونيسكو، بتكليف وتعاون مع وزارة الاعلام، بتاريخ 26 نيسان/أبريل 2023، تعديلات عليه. وحذفت ملاحظات “اليونيسكو” المادتين 70 و71 لأنه، “وفقاً للمعايير الدولية، يجب أن يُطلب من أولئك الموكلين بسلطات الحوكمة تحمّل درجة أكبر من النقد وعدم الخضوع لمزيد من الحماية”.
غير أن ملاحظات “اليونيسكو”، ليست الأولى في السياق الرافض للحبس، كونها تنسجم مع مواقف الجمعيات الحقوقية والناشطين الإعلاميين الذين مارسوا الضغط، منذ أكثر من عشر سنوات، للقفز فوق تلك النصوص، ورفض بالمبدأ وبشكل مطلق، عقوبة السجن التي يحدّدها قانون المطبوعات الحالي بشهرَيْن، ووردت مقترحات برفعها أكثر.
كما رفض الحقوقيون احتفاظ النائب العام بسلطة توجيه اتهامات ضد الأفراد المتهمين بالتحقير أو بالتشهير بالرئيس، حتى من دون شكوى شخصية منه.
تحالف الحريات
إحدى وسائل الضغط، تمثلت في دعوة “تحالف الحريات في لبنان”، مجلس النواب، لجعل المناقشات التشريعية في اللجان البرلمانية علنية ومفتوحة، وإتاحة المجال لمداخلات ذات مغزى من المجتمع المدني بشكل خاص حول مشروع قانون الإعلام، وضمان أن قانون الإعلام الجديد يفي بالمعايير الدولية، بما في ذلك من خلال:
– إلغاء جميع المواد التي تُجرّم التحقير، بما في ذلك تلك الموجهة إلى رؤساء الدول؛ المؤسسات العامة والجيش والمسؤولين الحكوميين والأمنيين؛
– إلغاء أي أحكام تفرض عقوبات جزائية على الذم والقدح واستبدالها بأحكام مدنية وضمان أن تكون التعويضات الممنوحة متناسبة تمامًا مع الضرر الفعلي الناجم؛
– النص على أن الحقيقة ستكون الدفاع الفاصل في قضايا القدح والذم، بغض النظر عن الشخص المستهدف. وفي قضايا المصلحة العامة، يكفي أن يكون المدعى عليه قد تصرف بالعناية الواجبة لإثبات الحقيقة؛
– عدم منح الشخصيات العامة، بمن فيهم الرئيس، حماية خاصة من القدح والذم أو التحقير. لا يكفي مجرد اعتبار أشكال التعبير مهينة لشخصية عامة لتبرير فرض عقوبات. جميع الشخصيات العامة عرضة للانتقاد والمعارضة السياسية بشكل شرعي، ويجب أن يعترف القانون صراحةً بالمصلحة العامة في انتقاد الشخصيات والسلطات العامة.
– حصر التجريم فقط بالتصريحات التي ترقى إلى الدعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف. ويجب أن يحدد القانون بوضوح المقصود بكل من هذه المصطلحات، بالاستعانة بـ”خطة عمل الرباط” كدليل توجيهي.
(*) ينشر هذا التقرير ضمن برنامج زمالة مشروع “إصلاح الإعلام وتعزيز حرية التعبير في لبنان”، الذي تنفذه مؤسسة “مهارات” بدعم من الاتحاد الاوروبي. هذا المحتوى لا يعكس بالضرورة آراء الاتحاد الاوروبي